
لم يكن مجرد فوز بل لحظة انتصار على الماضي المليء بالتحديات، فهبوط الأهلي السعودي لدوري الدرجة الأولى لأول مرة في تاريخه في العام 2022 لم يكن النهاية، بل كان ذلك الهبوط البداية الحقيقية لمسيرة غير عادية، فبعد السقوط ارتفع الأهلي وصولا إلى القمة ليتوج بطلا لآسيا ولأول مرة في تاريخه.
على الرغم من سنوات الانتكاس والتراجع، وتغير الإدارات، والإنكسارات المتتالية والتي زرعت الشك في نفوس الجماهير، بدأت ملامح النهوض تظهر أخيرا، فهناك من أمسك بالخيوط المبعثرة ونسج منها طريقا نحو القمة القارية.
تعطينا تجربة الأهلي السعودي دروسا في فن إدارة الازمات والتفوق اللوجستي، ويمكن أن نستلهم منها العبر في مختلف المجالات اللوجستية والإدارية، سواء في عالم العمل التجاري أو المجتمعي.
عند التأمل في تفاصيل هذه العودة، فإنه من السهل أن ننشغل بالأهداف والاحتفالات، ولكن الأعمق من ذلك هو التفكير فيما جرى خلف الكواليس، فهذا الإنجاز الكبير لم يكن ليتم دون وجود منظومة عمل تشبه في تفاصيلها الدقيقة ما نراه في أفضل الممارسات اللوجستية، حيث يُصبح النجاح ثمرة للتكامل الدقيق بين التخطيط والتنفيذ والمرونة التشغيلية.
في كرة القدم كما في الأعمال، الجماهير لا ترى سوى آخر مراحل النجاح والتي تتمثل في تسجيل الأهداف وتحقيق الانتصارات وصولا لرفع كأس البطولة، لتمتلأ المدرجات بالتصفيق والهتافات والأهازيج المليئة بالفرح بعد نشوة الانتصار، ولكن هذه الجماهير لا ترى ما هو أهم من ذلك، من التخطيط وإعادة الهيكلة وتوزيع الأدوار داخل المنظومة لتحقيق التكامل، فالأهلي السعودي في رحلته نحو المجد أعاد ترتيب أوراقه بكل هدوء، ولم يتم ذلك إلا بمصارحة الذات والإقرار بوجود الخلل وتقييم نقاط الضعف، ثم العمل بكل جد على تحسين مختلف الجوانب باستقطاب دماء جديدة على مختلف الأصعدة، وتعزيز الانضباط داخل النادي.
تماما كما تعاني سلاسل الإمداد من الاختناقات، مر الأهلي السعودي بمرحلة عنق الزجاجة، وهذه المرحلة تتطلب الثبات والإصرار واتخاذ قرارات مصيرية للنهوض من خلال التغيير الجذري الحقيقي وبناء الثقة بالذات، بالإضافة إلى تعزيز ثقة الجماهير الأوفياء الذين استمرروا في تقديم أقصى درجات الدعم لناديهم، وكل ذلك العمل كان بناء على خطط استراتيجية طويلة المدى لا تعتمد على ردات الفعل السريعة وغير المنضبطة.
في كل منظومة ناجحة سواء كانت شركة لوجستية أو نادٍ رياضي، تبقى الوصفة السرية ثابتة لا تتغير وهي “التكامل”، تلك الوصفة التي لا يمكن لأي جهة كانت أن تحقق النجاح دون وجودها.
الأهلي السعودي لم يكن ليحقق هذا الانتصار الكبير لولا وجود التكامل المميز بين الإدارة، والجهاز الفني، واللاعبين، بل وحتى الجماهير، فقد شكلوا جميعا سلسلة مترابطة لا يمكن لها النجاح إلا بالعمل المتزامن المنظم.
ما حدث للأهلي السعودي هو بالضبط ما نراه في سلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية، فمن المورد الأول وصولا إلى العميل النهائي، لا بد أن تكون كلمة السر تلك حاضرة، فالتكامل في كافة عناصر سلسلة الإمداد والذي يشمل التكامل في السلسلة الداخلية للمنظمة ذاتها، وتكاملها التام مع السلسلة الخارجية التي تشمل كافة الأطراف المرتبطة بالمنظمة من الموردين والعملاء ومقدمي الخدمات وغيرهم، هو الطريق لتحقيق النجاح والتميز.
وجود أي خلل في أي حلقة من السلسلة قد يؤدي في نهاية المطاف إلى فشل العمل بأكمله، والأهلي السعودي تجاوز هذا الأمر بإتقان، حيث عمل الجميع بتكامل تام لتحقيق هدف واحد وهو استعادة الهيبة، والذي أثمر في النهاية ليس إلى العودة للمسار القديم وحسب؛ بل تجاوزه وصولا إلى تحويل ما كان حلما بالأمس إلى واقع يعيشه النادي وعشاقه اليوم.
ما ميز الأهلي السعودي في رحلته الأخيرة هو التحول من ردة الفعل إلى الفعل، ومن التمسك بالتاريخ السابق إلى صنع تاريخ جديد، لم ينتظر النادي حصول أزمات أكبر وأعمق ليبدأ بالتحرك، بل بدأ العمل الفوري المنظم بمجرد أن دق ناقوس الخطر، وبدأ التخطيط الاستباقي كما يحدث بالضبط عند التخطيط لمواسم الذروة في العمل اللوجستي.
استقطاب لاعبين أكفاء، وإعداد الفريق بدنيا ونفسيا، بالإضافة إلى التعامل الإعلامي المتزن البعيد عن العاطفة والإنفعالات، كل ذلك انعكس على جاهزية عالية للفريق شبيهة بما تقوم به الشركات عندما تطبق مفهوم الجاهزية التشغيلية Operational Readiness لضمان استمرارية العمل حتى في أصعب الظروف.
احدى أهم نقاط التحول التي ساهمت في نجاح الأهلي السعودي كانت قدرته على التكيف، فتغيير المدرب ودمج عناصر جديدة للفريق وما صاحب ذلك من تعديل أساليب اللعب لم يربك المنظومة الكروية، بل ساهم في جعلها أكثر مرونة، وهذا ما يعرف في سلاسل الإمداد بـ Supply Chain Agility، والذي يشير إلى قدرة المنظمة على التكيف السريع مع التغييرات دون المساس بجودة الأداء، لتكون النتيجة النهائية هي الوصول إلى منظومة مرنة قادرة على المنافسة في أعلى المستويات.
قصة الأهلي السعودي هي ليست قصة رياضية محفزة لعشاق المستديرة فقط، بل هي درس إداري بامتياز، وهي تذكير بأن الإنجاز لا يأتي صدفة، بل يكون نتيجة لرؤية واضحة، وتخطيط محكم، وتكامل متين، وبيئة مرنة تحتضن التغيير المستمر وتتكيف معه.
كما في سلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية، لا يكون النصر دائما للأفضل تجهيزا، بل للأكثر قدرة على التنظيم والتكامل والاستجابة السريعة للمتغيرات.
فلننظر لما فعله الأهلي السعودي ونتعلم: من الهبوط إلى القمة، لم تكن مجرد رحلة كروية، بل خريطة طريق نحو التميز المؤسسي، فهنيئا للأهلي هذا الإنجاز وهنيئا للوطن أجمع وصول أحد نواديه إلى قمة الكرة الأسيوية.