
في عالم الأعمال هناك قاعدة منطقية، وهي أن مستوى الخدمة الذي تحصل عليه ينبغي أن يتناسب مع ما تدفعه من مقابل لها، فيما يُعرف بمفهوم “القيمة مقابل المال”.
دار بيني وبين أحد الأشخاص نقاش أثناء بحثه عن شركة تخزين جديدة بعد أن ضاق ذرعًا بمزوّد الخدمة الذي يتعامل معه، وكنت حريصًا على أن أفهم مشكلته بشكل كامل. هذا الشخص كان قد أسس نشاطًا تجاريًا متخصصًا في استيراد بعض أنواع المواد الكيميائية وبيعها في السوق المحلي، ومن الطبيعي لأي صاحب مشروع في بداياته أن يسعى جاهدًا لتقليل مصروفاته قدر الإمكان من أجل تحقيق التوازن المالي خاصة بأن المشروع في بدايته تكون له مصروفات كبيرة قبل أن يتمكن من تحقيق الإيرادات.
عندما بدأ ذلك الشخص نشاطه التجاري، كان يبحث عن شركات لوجستية تقدم خدمات التخزين للغير وتملك مستودعات مرخصة لتخزين المواد الكيميائية، وهو أحد المتطلبات الأساسية لإتمام عمليات الاستيراد، وكحال الكثيرين من رواد الأعمال المبتدئين، حصل على عدد من العروض ووجد بينها عرضًا بسعر منخفض للغاية مقارنة بغيره، فظن أنه أحرز صفقة موفقة دون أن يدرك ما ينتظره.
مع بداية العمل الفعلي، بدأت تتجلى أمامه ملامح المشكلة شيئًا فشيئًا، فالتواصل مع الشركة تسوده حالة من التخبط، والإجراءات غير واضحة، وعمليات الاستلام والتسليم يشوبها الكثير من الأخطاء، ناهيك عن التقارير اليومية التي تملؤها الملاحظات، بالإضافة إلى الأخطاء في الطلبات التي يتم تجهيزها.
قال لي بأنه لم يقم بزيارة المستودع لا قبل التعاقد ولا حتى خلال الفترة الأولى من العمل، لأنه كان يقيم في مدينة أخرى، واكتفى بالاعتماد على الصور التي تم إرسالها إليه، وبعد فترة من المعاناة والتخبط المستمر، قرر السفر أخيرًا لزيارة المستودع بنفسه، وهناك صُدم بما رأى.
مستودع يفتقر إلى أدنى معايير السلامة، تكدس عشوائي للبضائع، ولا يوجد أي فصل بين المواد الكيميائية المختلفة، حتى أنك ترى المواد القابلة للاشتعال مخزنة بجانب المؤكسدات، في خرق كبير لأبجديات السلامة (ومن يمتلك أدنى معرفة بالتخزين الكيميائي يعي حجم الكارثة).
أما عن فريق العمل في المستودع فحدّث ولا حرج، فهم لا يملكون أي معرفة بتلك المواد، ولم يحصلوا على أدنى مستويات التدريب، وليس له لديهم تصور حول خطورة المواد التي يتعاملون معها، فتراهم يتعاملون مع تلك المواد شديدة الخطورة وكأنها منتجات عادية لا تشكل أي ضرر!
بالرغم من كل ذلك، لم يتخذ قراره بالانتقال إلى شركة أخرى بناءً على ما رآه فقط، بل لأن رد فعل المسؤول في تلك الشركة عندما واجهه بما رأى كان أكثر صدمة، إذ قال له بوضوح: “نحن نقدم الخدمة بالسعر الأقل في السوق، فهل تتوقع أن تحصل على مستوى خدمة يوازي ما تقدمه الشركات التي تبيع بأسعار مرتفعة؟”.
هنا تتجلى المشكلة؛ إذ أن هناك من يخلط بين خفض التكاليف وبين التفريط في الأساسيات! لا يمكن لنا أن نتجاهل قواعد السلامة الأساسية، أو نتهاون في إدارة المخزون بالشكل الصحيح عبر توظيف غير الأكفاء أو الاعتماد على عدد قليل من الموظفين بما لا يتناسب مع حجم العمل فقط من أجل تقديم سعر أقل من المنافسين، خاصة بأن الشركات اللوجستية مسؤولة عن تقديم خدمات التخزين لبضائع شركات أخرى مما يجعل المسؤولية عليها أكبر.
المنافسة السعرية مقبولة عندما تكون بين جودة منخفضة لكنها معقولة ومعلومة، وبين جودة عالية لها جمهورها، أما أن يتحول الأمر إلى تخفيض السعر على حساب كل القواعد الأساسية، فهذه وصفة حتمية للفشل.
من أراد أن يقدم خدمة بسعر أقل باستخدام مستودع بسيط لكنه منظم ويطبق الحد الأدنى من معايير السلامة ومستوى خدمة مقبول، فهذا خيار منطقي لمن يبحث عن مستوى معين يناسب إمكاناته، أما التوفير الذي يهدم القواعد، فهو مغامرة محفوفة بالخطر.
السؤال المهم، هل يقع الخطأ على الشركة اللوجستية وحدها؟ إجابتي هنا هي لا! فهذه الشركات ما كانت لتتمادى في هذا النهج لولا أنها وجدت من العملاء من لا يعنيهم شيء سوى الحصول على السعر الأقل، والأسوأ أن حتى بعض الشركات الكبرى تقع في هذا الفخ بسبب قرارات فردية أحيانا من أشخاص همهم خفض التكاليف لمصالح شخصية في بعض الأحيان، قيسعون للحصول على الخدمات بأقل سعر ممكن، ويغضون الطرف أحيانًا عن تجاوزات خطيرة طالما أن فريق السلامة لديهم لا يلحظ تلك المخالفات أثناء الزيارات الميدانية التي يهتمون أن يظهر العمل بها بشكل مقبول نسبيا، أما في بقية الأيام فلا أحد يهتم، والهدف دائمًا هو تقليل التكاليف بأي شكل.
نعم، خفض التكاليف أمر مهم في عالم الأعمال، بل هو من صميم إدارة سلاسل الإمداد، لكن يجب أن يكون ذلك ضمن حدود منطقية، ولهذا السبب، تتحدث الشركات الرائدة عن تحسين التكاليف Cost Optimisation بدلًا من خفضها، لأن تحسين التكاليف يركز على التخلص من الهدر وإزالة المصروفات التي لا تضيف قيمة حقيقية للمنتج أو الخدمة دون المساس بالجودة أو السلامة، أما خفض التكاليف دون وعي، فهو الطريق الأقصر نحو الخسارة.
قصة هذا الشخص الذي ذكرتها ليست مجرد حالة فردية، بل هي مؤشر واقعي يؤكد أن السوق مليء بالخيارات، لكن ليس كل خيار مغرٍ يستحق الثقة. ربما لم يكن يعلم في البداية أن مزود الخدمة الذي اختاره بهذا السوء، لكن التجربة فتحت عينيه، كما ينبغي أن تفتح أعين كل من وقع في الفخ ذاته.
الرسالة واضحة، الشركات التي تعتمد على حرب الأسعار، وتبيع خدماتها بأسعار منخفضة مقابل التهاون في معايير السلامة والجودة، لن تستطيع الاستمرار طويلًا، فهي قد تحقق أرباحا كبيرة على المدى القصير، لكنها لن تنجو على المدى البعيد، وستجد نفسها كفقاعة سرعان ما تنفجر بعد انتفاخها، النجاح الحقيقي لا يأتي من البيع الأرخص، بل من تقديم قيمة حقيقية مقابل المال، قيمة تحترم جودة العمل وسلامة الناس وثقة العملاء، وهذا هو الفرق بين من يستمر ومن يحقق مكاسب مؤقتة ويتخارج بعدها من السوق.