تناقشت في استشارة عبر الهاتف مع مالك احدى الشركات بخصوص مشكلات في شركته ترتبط في أساسها بضعف تكامل سلاسل الإمداد، فالشركة التي استطاعت أن تحقق نموا كبيرا جدا في السنوات الأخيرة، بدا واضحا أنها اليوم بحاجة لتحرك سريع لحماية المكتسبات التي تم الوصول إليها، وأحببت أن أتحدث عن هذه التجربة في مقال مختصر لما في دراسة وتحليل مثل هذه الحالات من دروس يمكن الاستفادة منها.
قبل أن أتطرق للمشكلات التي تواجه الشركة؛ لا بد أولا من ذكر بعض التفاصيل حول ما كانت عليه الشركة في الماضي والوضع الحالي لها اليوم.
تعمل الشركة في مجالي البيع بالجملة والتجزئة لمنتجات تدخل ضمن مستلزمات التشطيب للمباني، وتقوم الشركة بتصميم منتجاتها داخليا ومن ثم تصنيعها في الصين، ولديها علاقات متينة وطويلة مع عدد من المصانع هناك.
بالرغم من كون قسمي الجملة والتجزئة تتم إدارتهما معا حسب الهيكل التنظيمي الداخلي للشركة؛ إلا أن الكيان التجاري الرسمي لكل نشاط مستقل عن الآخر ويعمل كل قسم باسم تجاري مختلف، تتولى شركة البيع بالجملة مسؤولية التصنيع والتوريد لشركة التجزئة، وأيضا تقوم بالبيع للجهات الأخرى المنافسة في السوق، كما أن عقود التوريد الكبرى التي تكون لجهات معينة الشركات والمشاريع الإنشائية الكبرى تتم عن طريق شركة الجملة.
بالنسبة لشركة البيع بالتجزئة، فهي لا تعتمد فقط على ما تورده الشركة الشقيقة؛ بل أنها تقوم بالشراء أيضا من الموردين المنافسين بالسوق.
كان العام 2018 استثنائيا بالنسبة للشركة؛ ونعني هنا قطاعي الجملة والتجزئة على حد سواء، حيث حققت الشركة نموا كبير في المبيعات وزيادة في الحصة السوقية، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى توظيف أشخاص متخصصين لتولي المسؤوليات المرتبطة بسلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية، حيث كانت هذه الوظائف تدار سابقا وبشكل كلي من قبل صاحب الشركة وشركاؤه.
تم توظيف مسؤول للمشتريات، وآخر للخدمات اللوجستية المرتبطة بالشحن البحري والنقل البري، وثالث كمدير للمستودعات التي توسعت لتشمل مدينتين بدلا من مدينة واحدة فيما سبق من أعوام.
استمرت الشركة في النمو والتوسع وصولا للعام 2022، والذي حققت فيه نموا قياسيا في المبيعات والحصة السوقية أعلى بكثير مما حصل في العام 2018، وهنا أورد بعض الاحصائيات بين العامين 2018 و2022:
– تم توظيف أشخاص إضافيين بمناصب قيادية في الإدارات المرتبطة بسلاسل الإمداد.
– تضاعفت المبيعات لعدة أضعاف وازدادت حصة الشركة السوقية.
– تم افتتاح فروع إضافية كثيرة لنشاط التجزئة، وبلغت نسبة الزيادة في عدد الفروع أكثر من 700%.
– تضاعفت أعداد الحاويات التي يتم استيرادها سنويا لعدة أضعاف.
– تم توظيف العشرات من مندوبي المبيعات لنشاط البيع بالجملة في مختلف مناطق المملكة.
بالرغم من أن الشركة استمرت في تحقيق النمو بالمبيعات في العام 2023، إلا أن نسبة النمو التي حصلت في ذلك العام كانت أقل من المتوقع، وأقل بكثير مما تم تحقيقه في العام 2022، وكذلك نسبة هامش الربح كانت أقل بكثير مما سبق، ونتيجة لذلك قرعت إدارة الشركة ناقوس الخطر.
النمو الكبير الذي تمكنت الشركة من تحقيقه في الأعوام السابقة والزيادة في الربحية جعل إدارة الشركة واثقة بأنهم يسيرون في الطريق الصحيح، ولكن ما حصل من انخفاض كان كفيلا بإنبائهم بأن هناك مشكلة ينبغي عدم تجاهلها، وهذا يبين لنا بأن تحقيق بعض الشركات للربح أحيانا يجعلها تغفل عن جوانب الهدر المختلفة، وتهمل عملية التحسين المستمر.
ما هي المشكلات التي تواجه الشركة حاليا؟
تم تحديد مشكلتين رئيسيتين، وملخصهما:
انخفاض في المبيعات، وتم تحديد أسباب متعددة لذلك، منها انخفاض في عدد المشاريع الكبرى الجديدة التي حصلت عليها الشركة، وانخفاض في مبيعات الجملة والتجزئة بسبب التأخر في توريد بعض المنتجات الأساسية ذات الطلب العالي، وكذلك ضعف التطوير والتجديد في تصاميم المنتجات التي أصبحت قديمة نسبيا.
ارتفاع التكاليف، وذلك لعدة أسباب أيضا، حيث تمثل السبب الرئيسي في ارتفاع تكاليف التخزين نتيجة لزيادة عدد المستودعات والذي كان أحد أسبابه وجود مخزون راكد لفترات طويلة، وأيضا زيادة عدد الموظفين من مندوبي المبيعات مقابل الانخفاض في النمو.
من خلال مناقشة المشكلتين الرئيسيتين مع مالك الشركة بشكل سريع، تم تحديد عدد من الأسباب الرئيسية (والتي تحتاج لدراسة معمقة دون شك)، وتمثلت هذه الأسباب في التالي:
وجود مشكلة في تدفق المعلومات، خاصة من أسفل السلسلة لأعلاها، حيث لم يكن هنالك اهتمام بدراسة احتياجات العملاء والتغير في رغباتهم من قبل فريق المبيعات، وهو الأمر الذي يساعد في الابتكار والوصول إلى أفكار جديدة لمنتجات تتناسب مع تلك التغيرات، ومن ثم التنسيق مع قسم المشتريات لعملية تخطيط التوريد حسب متطلبات السوق وقدرات الموردين.
ارتبط تأخير التوريد للمنتجات الرئيسية والأعلى مبيعا لدى الشركة بسببين رئيسيين، تمثل الأول في وجود خلل بعمليات تخطيط الاحتياج وتحديد نقطة إعادة الطلب الصحيحة لكل منتج، والثاني في تأخر الشحن البحري من الصين، وكان هناك سببين لتأخر مدة الشحن، احدهما خارج عن سيطرة الشركة، والآخر كان بسبب تعمد الإدارة اللوجستية تأجيل الشحن لبعض الحاويات في محاولة لتقليل تكاليف الشحن البحري عندما تكون أسعار الشحن أعلى عن المعتاد.
أخطاء في المخزون وذلك بسبب خلل في إدارة المستودعات، حيث أن المنتجات في نظام إدارة المستودعات لا تطابق ما هو موجود فعليا فيها، وهذا يؤثر على تخطيط التوريد بشكل كبير وزيادة تكلفة التخزين والاحتفاظ بالمخزون.
استغلال المنافسين للوضع الراهن خاصة فيما يتعلق بتأخر التوريد، وبالتالي زيادة حصتهم السوقية مقابل انخفاض حصة هذه الشركة.
تشخيص الداء هو نصف العلاج كما يقال، حيث أصبح من الواضح أن أهم عنصر مفقود حاليا هو تكامل سلاسل الإمداد والذي يعتبر الأساس الذي يبنى عليه نجاح السلسلة كاملة، فلا يمكن أبدا أن يكون هناك نجاح في سلسلة الإمداد من غير وجود التكامل بين السلسلة الداخلية ومن ثم تكاملها كليا مع السلسلة الخارجية.
لا يمكن إعطاء حلول لمشاكل من هذا النوع والتي تحتاج لاتخاذ قرارات مصيرية لحلها من خلال سماع المشكلات بشكل مختصر عبر اتصال هاتفي (وهو ما كان هنا)، ولكن تم تقديم مقترح لدراسة أمرين أساسيين:
إعادة هيكلة النظام الخاص بسلاسل الإمداد، ويمكن الاعتماد هنا على جهة استشارية خارجية متخصصة في هذا الأمر لتحليل المشكلات بشكل معمق وتحديد المشكلات الأخرى إن وجدت، ومن ثم إعادة بناء النظام بشكل ملائم بأعلى درجات الجودة والكفاءة، ويشمل ذلك صياغة اجراءات العمل القياسية Standard Operating Procedures (SOPs).
توظيف قائد لإدارة قسم سلاسل الإمداد، حيث أن وجود قائد من هذا النوع ضروري مع توسع أعمال الشركة، وتكون الوظيفة الأساسية لهذا القائد المساعدة في إعادة هيكلة الإدارة لتحقيق تكامل سلاسل الإمداد داخليا وخارجيا، والتأكد من الالتزام بالنظام الجديد وتطبيقه بشكل كامل ومتابعة نتائجه وتصحيح المسار عند ملاحظة أي انحراف أو خلل.
هذه الحالة تعطينا دروسا مهمة في أهمية تكامل سلاسل الإمداد في كافة جوانبها المرتبطة بالتوريد والخدمات اللوجستية، وكذلك التكامل مع كافة الإدارات الأخرى بالمنظمة مثل المبيعات والمالية، وعلينا أن نتذكر دائما أن أهم هدفين لسلسلة الإمداد هما تلبية متطلبات العميل بشكل كامل أو تجاوزها مع الإدارة الصحيحة للتكاليف.
مستشار في الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة "منشآت"، خبير سلاسل الإمداد والتجارة الإلكترونية.
حاصل على درجة الماجستير في إدارة سلسلة التوريد من Dublin Institute of Technology بجمهورية إيرلندا.